قيل الكثير حول موضوع هوية الدولة , اسلامية كانت او علمانية , هذا النقاش الذي استمر لسنوات دون ان يحسم بين الطرفين المختلفين .
الاسباب التي دعتني للكتابة عن هذا الموضوع وبالطريقة التي ستشهدونها هو شعوري بضرورة التركيز على هذه القضية لربما نساهم يوما في حلها للإنطلاق الى ما هو أفضل !, ومن هنا سأركز على مشروع الدولة الاسلامية لتقديم قرائتي لهذه الفكرة التي تشغل بال الكثيرين من أهل المنطقة .
الكثير من الناس يتحدثون عن تعارض الدولة الاسلامية مع الليبرالية , وهذه النظرية الباطلة ببطلان مصادرها مدفوعة بالتعصب الديني والمذهبي الذي اعمى البصيرة , وباتت حقيقة فكرة الدولة الاسلامية واصلها غائب في غياهب التعصب .
سمو الدولة الإسلامية
فكرة الدولة الاسلامية هي فكرة سامية , ومن المفترض ان ترتكز على ماهو صحيح وايجابي وان تتلافى ببنيانها الأخطاء , وهذا ما سيحصل في حال لو اقتنعنا بأن الفكر والعقل من الممكن ان يجتمعان مع النص , ليس للخروج في صيغة دولة موجهة وجهة دينية دون غيرها وانما على الأقل لإيجاد البديل للفكرة الحالية والتي تستند على العقل والفكر فقط وهي بلا شك ليست كافية , فالتعصب لم يمحى من تلك الدول العلمانية والجريمة لم تنتهي والناس لم تتخلص من همومها ومشاكلها والفقر لم يتم القضاء عليه والبيئة تئن , والحروب لم تتوقف ولا شي حصل سوى تحقيق اكبر هامش وقدر حميدين من الحرية والعدالة والمساواة , وبالتالي فإن أفضل الأسوأ لا يعني بأنه الأفضل على الاطلاق مما يتوجب التفكير اما ببديل انجح وإما بتطوير الوضع الحالي لمزيد من التلافي لتلك المشكلات .
دولة الدعوة الإسلامية - الدولة الاسلامية الحقيقية !
هناك مشروع جيد ومدفون , وهو موجود في التاريخ الإسلامي الأول , وتحديدا في زمن الدعوة التي تحولت الى دولة بناءا على ركائز لابد من البحث بها .
هي دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام والتي تحولت الى دولة , تلك الدعوة والتي من المفترض ان تكون هي مصدر التفكير في إعادة بناء الدولة الإسلامية .
تلك الدعوة , والتي بدأت بالحوار وقابلت الإساءة بالاحسان , و تمسكت بأسمى مبادئ التسامح والتعايش السلمي المشترك , تلك الدعوة التي بدأها الرسول الكريم وطورها لأن تكون دولة اسلامية خاضت الحروب - الدفاعية - , تلك الدولة التي لم تمارس في زمن الرسول الكريم أي تعصبات ضد فئة او دين او عنصر وإنما كانت تحاور وتتكلم وتناقش , تلك الدولة التي إنطلقت وبرزت نتائجها بتالي الازمان .
وعندما نتكلم عن تلك الدولة , لابد وان نشير الى عنصر مهم فيها والمتمثل بشخص الرسول الكريم , والذي أسس دولة دون ان يكون متعلما ولا خبيرا , فقد كان راعيا وحكم الدولة بالعناصر التي ذكرنها أعلاه بالاضافة الحكمة والتواضع والكرم وادب الخلق والانحياز للعدل والمساواة والحق ولا لأي شيئ آخر , ذلك الرسول الرئيس النظيف الذي التف حوله مجموعة من الأهل والاصحاب المميزين بأفعالهم واقوالهم وبالمشورة التي يقدمونها للرسول الرئيس , ذلك الرسول الإنسان الذي لم ينهر ولم يتكبر او يتعالى أو يقهر !.
كانت تلك الدولة هي الدولة الاسلامية الحقيقة , وهي التي أرى بأن العالم يحتاجها اليوم , أو على الأقل الإكتفاء لإعدادها كبديل ناجح للتجربة الانسانية الحالية والمعرضة للفشل والتي من أهم نماذجها الجمهورية الفرنسية والتي اظهرت اخبار البارحة تفاصيل الخلاف العرقي مابين لاعبي منتخبها الوطني دون أن تقدم الدولة العلمانية شيئا بالرغم من عراقتها ! , هذا بإلاضافة الى بعض الممارسات المرفوضة ضد ارتداء الحجاب او الصليب او الطاقية اليهودية , التي يعد تصرف تلك الدولة تدخل سافر في حرية الاعتقاد والتي يندرج تحتها الايمان بأهمية ارتداء الحجاب .
الدولة الاسلامية بمواجهة الدولة العلمانية !
الدولة الإسلامية الحقيقية , والتي تحدثت عنها أعلاه , تقدم للبشرية شيئا لا تقدمه الدولة العلمانية , فالتفكر فيما بعد الحياة هو هدف رفيع وذو وزن , ويعد دافعا للإستمرار ودافعا للتمسك بالخير وإتقاء القيام بالأفعال الشريرة , والسؤال الذي يطرح نفسه هنا , إلى اين يريد ان يصل بفعله وحياته من يحيى في ظل الدولة العلمانية ؟, وماهي أسمى وأرفع أهدافه ؟ , وذات السؤال يطرح لمن يريد ان يحيى تحت مظلة القيود الاسلامية ذات الهدف السامي المتمثل بإرضاء الرب والفوز بالآخرة !.
هذه هي الدولة الإسلامية , بالمقومات التي يجب ان تتوافر فيها ذاتها , أو على الأقل ان تحقق قدر كبير من هذه المقومات , هذه هي الدولة الاسلامية الحقيقية , لا التعصب ولا حب المال والنفوذ ولا سياسة الفتوحات وإرغام الناس على الدخول بالإسلام او الدفع او الحرب يمثل شيئا من الدولة الاسلامية الحقيقية , بدليل تخلف الدولة الاسلامية التي أعقبت وفاة الرسول الى اليوم , آلاف السنين وهذه الدولة تعاني من التشرذم وفي كل المجالات !.
الموقف الحالي من المشــروع العلـــماني
هذه المقالة ليست دعوة للتخلي عن المشروع العلماني , فالمشروع العلماني لازال الأفضل ومشروع الدولة الاسلامية الحقيقية لازال يفتقد حتى ابسط المقومات , وطالما ان المشروع العلماني هو الافضل فلابد من الدعوة للتمسك بهذا المشروع , بدلا من التشرذم اكثر في قصة النماذج السيئة والمختلفة للدولة الاسلامية - اللا حقيقية - والتي تستند على ازمان التخلف الفكري وازمان التعصب الديني والمذهبي , وازمان الاقتتال بإسم الدين للفوز بكرسي الخلافة !.
تـــركيـــا
وما يدعم حديثي هذا النظر في التجربة التركية , فتركيا قد تحولت من دولة خلافة اسلامية كبرى وتقلصت - بسبب أخطاءها لا بسبب أخطاء الاخرين , فنظرة الى كتب تاريخ المنطقة في الكويت والعراق وسوريا وغيرها من الدول , سنجد الابتعاد العثماني عن خط الحق والعدالة وباتت الاتاوات هي الاهم للدولة العثمانية للميل الى هذا الطرف او ذاك !, مما افقد الدولة مكانتها بالعالم بل ان الخلافة قد ضربت حتى في عقر دارها عبر الثورة الساحقة التي اقامت الدولة التركية العلمانية.
هذا ما يحكيه تاريخنا , والذي لم تنتهي فصوله بعد , بل إن ما يعزز هذه النظرية , نظرية ليبرالية الرسول عليه الصلاة والسلام , أي تحرره من كافة أشكال التعصب , هو ما يدث اليوم في تركيا , نظام علماني يسمح لإسلاميين جيدين بالوصول الى سدة الحكم , وبالتالي التقاء الفكرة والعلم بالأخلاق الرسولية مما حقق العديد من النجاحات في تلك الدولة , الأمر الذي يجب الحفاظ عليه عبر عدم انزلاق تلك الدولة في صراعات لن تنتهي قريبا , خصوصا وأن ضعف الجانب التركي في ذلك الصراع هو حقيقة مؤكدة , وتتمثل بشكل الدولة التركية الناهضة حديثا ولازالت تحتاج للمزيد بالإضافة الى غياب الحلفاء الجيدين , الأمر الذي يحتاج للكثير من الإصلاح والعلاج وبالتالي المزيد من السنوات .
السؤال الآن , هل هناك من هو مستعد لهذا الرهان ؟ , وهل تنهض شعوب المنطقة لإصلاح ذاتها على الطريقة التركية ؟ , وهل من الممكن ان نشهد يوما تحول هذه الدول - العلة - الى حليف قوي ومحترم ؟ , أم أننا سنشهد سنوات طويلة من التخلف امتدادا لسنوات الضياع الاسلامي والتي تمتد الى زمن مابعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ؟.