الأربعاء، 11 يوليو 2012

بلد المليون سياسي


مقالة انشرها لصديق عزيز :
-------------------

لا يختلف اثنان على كون السياسة لعبة قذرة وهي كذلك بالفعل ، والسبب الرئيسي يعود إلى كون السياسة منفذا لتحصيل النفوذ والمصالح الخاصة من قبل رجالها قبل أي مصلحة أخرى بما في ذلك المصلحة العامة للشعوب ، فمهما ساءت أحوال المواطنين في أي بلد سيسعى السياسي دوما للحصول والإبقاء على المنصب أولا ومن ثم النظر للآخرين ، وعلى الرغم من وحدة هموم ومشاكل المواطنين التي تستوجب وحدة الأقطاب السياسية ووحدة الجهود المبذولة لحل مشاكل الشعب بفعالية أكبر إلا أن السياسي لا يتردد عن منح الوعود وتلميع الصورة والإساءة إلى الخصوم وتفريق جموع المواطنين للاستفراد بأصوات الناخبين والفوز بالمنصب ، وهذا الحديث ينطبق على جميع الأقطاب السياسية دون استثناء . لهذا السبب يوصف السياسيون والعمل السياسي بالدناءة ، ولهذا السبب كذلك تخلو المجتمعات "الطبيعية" من الأعداد الهائلة للسياسيين حيث تبقى أعدادهم محدودة في تلك المجتمعات التي تتميز بالاعتدال .

والعنصر الذي يضفي على أي مجتمع صفة "الطبيعية" هو العمل ، فمن خلال العمل يتحقق الاعتدال بوجود عنصري الراحة والجد في حياة الإنسان ومن ثم توازنها ، ومن خلال العمل تتحقق إنتاجية الفرد وارتقاء المجتمع واحترام العاملين بل وارتباط قيمة الإنسان بما يقدم من أعمال ، ومن خلال العمل تقل الاستهلاكية والاعتمادية والفراغ لكي تستبدل بحياة حقيقية يتميز فيها الأفراد بتنوع الاهتمامات التي يضفيها العمل على حياتهم ، لهذه الأسباب تخلو المجتمعات الطبيعية من ظاهرة "تسييس عقول الأفراد" التي يتحول فيها المواطنين أنفسهم إلى سياسيين وهذه بالفعل ظاهرة ، فمن النادر وجود دولة كما الكويت لا يتحدث فيها الأفراد سوى عن السياسة صغارا كانوا أم كبار وفي كل ركن ومكان ، فعلى غرار أغلب دول العالم التي يكد فيها الإنسان ومن ثم تنعكس أعماله واهتماماته وإنجازاته وأفكاره في حديثه اليومي ، أنتجت دولتنا المرفهة العديد من الشوائب المجتمعية أهمها انحسار حديث واهتمامات المواطنين على السياسة ولا شيء غير ذلك والأسوأ تحول المواطنين إلى سياسيون وما يستتبع ذلك من نتائج وخيمة جدا نراها بيننا اليوم بكل وضوح .      

ففي بلد المليون سياسي تتغيب مفاهيم الحق ، فلا يكف مؤيدي التيار الوطني عن منح التأييد دون الالتفات بالمرة إلى ما يتخلله من عيوب رغم إضرار ذلك بالوطن ، فعلى الرغم من مزايا التيار الوطني وهناك العديد إلا أن من أهم عيوبه عدم ترجمة الأقوال والمبادئ إلى أفعال سواء من حيث الإتيان بالتشريعات الصالحة للبلد خلال العمل النيابي ، أم من حيث الدفاع الفعلي عن الحقوق والحريات العامة التي تميز بها التيار كفكر ، أم من حيث الالتزام بمبدأ حرية الشعوب وعدم القدرة على التماس معاناة أهالي الثورات سواء في سوريا أم البحرين أم غيرهم . إن حياد التيار الوطني عن تطبيق المبادئ والإتيان بالأفعال وتخاذلهم عن توحيد الصفوف والجهود يعكس فشل التيار في تقدير وتقييم الوضع الراهن وخطورته وعدم قدرتهم على الإحساس بالشارع العام والتماس يأسه واحتياجاته وآماله ومن ثم تلبية النداء ، لكن التيار الوطني يظل تيار سياسي لا ينظر إلى الأمور سوى من واقع المصالح والامتيازات كما هي صفات ونظرة التيارات السياسية دوما وهو أمر طبيعي ، لكن الغير طبيعي هو تحولنا نحن طوعا كمواطنين إلى سياسيون والاصطفاف وراء رجال السياسة دون نقد بينما المصلحة العامة تستوجب التزام الموضوعية لتدارك وتحسين الأوضاع . 
  
في بلد المليون سياسي تتغيب مفاهيم الحق ، فلا يكف مؤيدي كتلة الأغلبية عن الانقياد وراء "وهم الإصلاح" من خلال السير خلف النواب السياسيين في حراك تجرأ العامة على تسميته بالحراك الشعبي في حين يتمحور الحراك الحقيقي للشعوب حول إرادة الشعب ذاته وإدارته وحده للحراك ، وبالرغم من مزايا التكتل الشعبي وكتلة الأغلبية وهناك العديد ، إلا أن التأييد الأعمى لهم ومناشدة الإصلاح بهم رغم ما يعتليهم من عيوب عارمة إنما يسيء إلى المصلحة العامة وإلى الوطن ، فالتباين المخزي لمواقف الأغلبية إزاء ثورتي سوريا والبحرين وغيرها من مواقف مماثلة كشف عن طائفية "أقطاب الإصلاح" التي تحتاج إلى من يصلحها ! نحن لا يهمنا سوريا والبحرين بقدر ما تهمنا الكويت ولهذا السبب نقول بأن من يفتقد القدرة على رؤية الحق وإنصافه لا يمكن له إنصاف أحد أبدا ولا حتى نفسه .


 لقد شهد جميعنا حياد الأغلبية عن أولويات الإصلاح ، والسكوت عن الفرعيات ، والتعدي على الحريات ، واستغلال يأس الشباب وآمالهم ، وتهييج الشارع العام نسبة لأطماع انتخابية بحتة ... وغيرها الكثير من المساوئ التي تجلت أمام أعيننا دون اكتراث ولا اعتراض يذكر رغم إساءة ذلك للمصلحة العامة والوطن ، لكن من يتسابق في حماية رجال السياسة على حساب المصلحة العامة لن يحمي الكويت .  

أكثر ما يؤسفنا اليوم هو امتداد الفساد إلى قلوب المواطنين وعقولهم ، فقد ارتدينا جميعا رداء السياسي المحنك وأصبحنا نزن  كل شيء لا حسب مصلحة الوطن والمواطنين بل حسب المصالح الخاصة والمحدودة واللاإنسانية ، وها قد بات أكثرنا اليوم في سعي دؤوب لا نحو محاربة الفساد بل نحو محاربة بعضنا البعض كمجاميع سياسية تتقاتل بشراسة ، كل فئة منها تنتصر لجماعتها وآرائها ونوابها تحت وهم الإصلاح وعلى حساب الوطن.

ليست هناك تعليقات: